سورة يوسف - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)}
{وتولى عَنْهُمْ} وذلك أنّ يعقوب لمّا بلغه خبر بنيامين تتامّ حزنه وبلغ جهده وجدّد حزنه على يوسف، فأعرض عنهم {وَقَالَ ياأسفى} يا حزني {عَلَى يُوسُفَ} وقال مجاهد: يا جزعاه، والأسف: شدّة الحزن والندم.
{وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} مقاتل: لم يُبصر بهما ستّ سنين {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي مكظوم مملوء من الحزن، ممسك عليه لا يبثّه، ومنه كظم الغيظ، عطاء الخراساني: كظيم: حزين، مجاهد: مكبود، الضحّاك: كميد، قتادة: تردّد حزنه في جوفه، ولم يتكلّم بسوء، ولم يتكلّم إلاّ خيراً، ابن زيد: بلغ به الجزع حتى كان لا يكلّمهم، ابن عباس: مهموم، مقاتل: مكروب، وكلّها متقاربة.
سعيد بن جبير: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يعط أُمّة من الأمم إنّا لله وإنّا إليه راجعون عند المصيبة إلاّ أُمّة محمّد، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه لم يسترجع: إنّما قال يا أسفى على يوسف؟».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدّثنا عبدالله بن أحمد ابن حنبل، قال: حدّثني أُبي، عن هشام بن القاسم عن الحسن، قال: كانت بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانين عامّاً لا تجف عينا يعقوب، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
{قَالُواْ} يعني ولد يعقوب {تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي لا تزال تذكر يوسف، لا تفتر من حبّه، يقال: ما فتِئتُ أقول ذلك، وما فتأتُ أو أفتؤ، فتأً وفتوّاً، قال أوس بن حجر:
فما فتِئتْ حيّ كأن غبارها *** سرادق يوم ذي رياج ترفع
وقال آخر:
فما فتئت خيل تثوب وتدّعي *** ويلحق منها لاحق وتقطع
أي فما زالت.
وحذف لا قوله فتئ كقول امرئ القيس:
فقلتُ يمين الله أبرحُ قاعداً *** ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي
أي: لا أبرح.
وقال خداش بن زهير:
وأبرحُ ما أدام الله قومي *** بحمد الله منتطقاً مجيداً
أي لا أبرح ومثله كثير.
{حتى تَكُونَ حَرَضاً} اختلف ألفاظ المفسّرين فيه، فقال ابن عباس: دنفاً، العوفي: يعني الهد في المرض، مجاهد: هو ما دون الموت، يعني قريباً من الموت، قتادة: هرِماً، الضحّاك: بالياً مدبراً، ابن اسحاق: فاسداً لا عمل لك، ابن زيد: الحرض: الذي قد ردّ إلى أرذل العمر حتى لا يعقل، الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم، مقاتل: مُدنفاً، الكسائي: الحرض: الفاسد الذي لا خير فيه، الأخفش: يعني ذاهباً، المُخرج: ذائباً من الهمّ، الفرّاء عن بعضهم: ضعيفاً لا حراك بك، الحسن: كالشنّ المدقوق المكسور، علام تعباً مُضنى، ابن الأنباري: هالكاً فاسداً، القتيبي: ساقطاً، وكلّها متقاربة.
ومعنى الآية: حتى يكون دنف الجسم مخبول العقل، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، ومنه قول العَرجي:
إنّي امرؤ لجّ بي حبٌّ فأحرضني *** حتى بليتُ وحتى شفني السقم
يُقال: منه رجل حرض وامرأة حرض ورجلان وامرأتان حرض، ورجال ونساء حرض يستوي فيه الواحد والإثنان والجمع، والمذكّر والمؤنّث، لأنّه مصدر وضع موضع الاسم، ومن العرب من يقول للذكر حارض وللأُنثى حارضة، فإذا وصف بهذا اللفظ ثنّى وجمع وانّث، ويُقال: حرض، يحرّض، حرضاً وحراضة فهو حرض، ويُقال: رجل محرّض وأنشد في ذلك:
طلبته الخيل يوماً كاملا *** ولو آلفته لأضحى مُحرضاً
وقال امرؤ القيس:
أرى المرءَ ذا الأذواد يُصبح مُحرضاً *** كإحراض بكر في الدّيار مريض
{أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} أي الميّتين، وقال يعقوب عند ذلك لمّا رأى غلظتهم وسوء لفظهم، {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} لا إليكم، قال المفسّرون دخل على يعقوب جار له فقال: يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ قال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من مُصاب يوسف، فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني إلى خلقي؟ قال: يا ربّ خطيئة أخطأتها فاغفر لي، قال: فإنّي قد غفرتها لك وكان بعد ذلك إذا سُئل قال: إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله.
وقال حبيب بن أبي ثابت: بلغني أنّ يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على عينيه، وكان يرفعهما بخرقة، فقال له رجل: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان.
فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني، فقال: خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
وعن عبدالله بن قميط، قال: سمعت أبي يقول: بلغنا أنّ رجلا قال ليعقوب عليه السلام: ما الذي أذهب بصرك؟ قال: حزني على يوسف، قال: فما الذي قوّس ظهرك؟ قال: حزني على أخيه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ وعزّتي وجلالي لو كانا ميّتين لأخرجتهما لك حتى تنظر إليهما، وإنّما وجدت عليكم أنّكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين فلم تطعموه شيئاً، وأنّ أحبّ خلقي إليّ الأنبياء ثمّ المساكين، فاصنع طعاماً وادعُ إليه المساكين، فصنع طعاماً، ثمّ قال: من كان صائماً فليفطر الليلة عند آل يعقوب.
وروى أبو عمران عن أبي الخلد ووهب بن منبه، قالا: أوحى الله تعالى إلى يعقوب: تدري لم عاقبتك وغيّبت عنك يوسف وبنيامين؟ قال: لا إلهي، قال: لأ نّك شويت عتاقاً وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه، ويقال: إنّ سبب ابتلاء يعقوب بفقد يوسف، أنّه كانت له بقرة ولها عجول فذبح عجولها بين يديها، وإنّما كانت تخور فلم يرحمها، فأخذه الله به وابتلاه بفقد يوسف أعزّ ولده.
وقال وهب بن منبه والسدّي وغيرهما: أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن، فقال: هل تعرفني أيّها الصدّيق؟ قال: أرى صورة طاهرة وريحاً طيّبة، قال: فإنّي رسول ربّ العالمين، وأنا الروح الأمين، قال: فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيّبين، ورأس المقرّبين، وأمين ربّ العالمين؟ قال: ألم تعلم يا يوسف أنّ الله يُطهّر البيوت لهؤلاء الطيّبين، وأنّ الأرض التي تدخلونها هي أطهر الأرضين، وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين؟
قال: كيف لي بابن الصدّيقين وتعدّني من المخلصين، وقد أدخلت مدخل المُذنبين، سمّيت باسم المفسدين؟ قال: لأنّه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربّك فلذك سمّاك الله في الصدّيقين، وعدّك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين، قال: هل لك علم بيعقوب أيّها الروح الأمين؟ قال: نعم وهب الله له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم، قال: فما قدر حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فماذا له من الأجر يا جبرئيل؟ قال: أجر مائة شهيد، قال: أفتراني لاقيه؟ قال: نعم، فطابت نفس يوسف، قال: ما أُبالي ما ألفيته أن رأيته.
وأمّا قوله بثّي فالبثّ: أشدّ الحزن سُمّي بذلك لأنّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه أي يُظهره، يقال: بثّ، يبثّ فهو باثّ وأبثّ يأبثه أبثاً يُبثّ فهو مُبثّ إذا أظهره قال ذو الرمّة:
وقفتُ على ربع لميّة ناقتي *** فما زلتُ أبكي عندهُ وأُخاطبه
وأسقيه حتى كاد ممّا أبُثّه *** تكلّمني أحجاره وملاعبه
وقال الحسن: بثّي أي حاجتي، وقال محمّد بن القاسم الأنباري: البثّ: التفرق، وقال محمّد بن إسحاق: معناه: إنّما أشكو حزني الذي أنا فيه إلى الله، وهو من بثّ الحديث.
{وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال ابن عباس: يقول أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له، وقال آخرون: وأعلم أنّ يوسف حيّ.
قال السدّي: لما أخبره ولده بسيرة الملك وقوله أحسّت نفس يعقوب فطمع وقال: لعلّه يوسف، ويروى أنّه رأى الملك في المنام فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا والله، وهو حيّ.
ويقال: أرسل الله إليه ذئباً فسلّم عليه وكلّمه، فقال له يعقوب: أكلت ابني وقّرة عيني وثمرة فؤادي؟ قال: قد والله علمتَ يا يعقوب أنّ لحوم الأنبياء وأولاد الأنبياء علينا حرام، فلذلك قال لبنيه: {يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} ولا تيأسوا من روح الله سيروا واطلبوا الخبر، من يوسف وأخيه: وهو تفعّلوا من الحسّ يعني تتبّعوا، قال ابن عباس: إلتمسوا، {وَلاَ تَيْأَسُواْ}، أي لا تقنطوا، من روح الله: من فرج الله، قال ابن زيد وقتادة، والضحّاك: من رحمة الله، {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون}.
يُقال: سُئل ابن عباس عن الفرق بين التجسّس والتحسّس فقال: لا يبعد أحدهما عن الآخر إلاّ أنّ التحسّس في الخير والتجسّس في الشرّ، الحسن وقتادة: ذكر لنا أنّ نبي الله يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلاّ أتى حسن ظنّه بالله من ورائه، وما ساء ظنّه بالله ساعة قط من ليل أو نهار، الحسن عن الأحنف بن قيس عن ابن عباس بن عبدالمطّلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال داود: إلهي أسمع الناس يقولون إله إبراهيم وإسحق ويعقوب فاجعلني رابعاً: فقال: لست هناك، إنّ ابراهيم لم يَعدل بي شيئاً قط إلاّ اختارني، وإنّ إسحاق جادَ لي بنفسه، وإنّ يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف».
{قَالُواْ ياأيها العزيز} في الآية متروك يستدلّ بسياق الكلام عليه تقديره: فجاؤوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف، فقالوا له: يا أيّها العزيز، يا أيّها الملك بلغة حمير، {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} الشدّة والجوع {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} قليلة، رديئة ناقصة، كاسدة. لا تنفق في شيء من الطعام إلاّ يتوجبن من البائع فيها، وأصل الإزجاء السوق والدفع، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً} [النور: 43] قال النابغة الذبياني:
وهبّت الريحُ من تلقاء ذي أزل *** تُزجي مع الليلِ من صَرّادها صرما
وقال حاتم الطائي:
لَيبكِ على مَلِحان ضيفٌ مُدَفَّعٌ *** وأرمَلةٌ تُزجي مع الليلِ أَرملا
وإنّما قيل للبضاعة: مزجاة لأنّها غير نافقة وإنّما يجوز تجويزاً على دفع من أخذها. وأمالها حمزة والكسائي وفخّمها الباقون.
واختلف المفسّرون في هذه البضاعة ما هي؟ عكرمة عن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفاً لا تنفق إلاّ بوضيعه بإذن عنه، يعني لا تنفق في الطعام؛ لأنّه لا يُؤخذ في ثمن الطعام إلاّ الجيّد، ابن أبي مليكة: حبل خِلق الغرارة والحبل ورثة المتاع، عبدالله بن الحرث: متاع الأعراب، الصوف والسّمن، الكلبي ومقاتل وابن حيّان: الصنوبر وحبّة خضراء، سعيد بن جبير: دراهم قليلة، ابن اسحاق: قليلة لا تبلغ ما كان يشترى به إلاّ أن تتجاوز لنا فيها أحسن كانت أو أوطأ، جويبر عن الضحّاك: النعال والأدم، ورويَ عنه أنّها سويق المقل.
{فَأَوْفِ لَنَا الكيل} أي أعطنا بها ما كنت تُعطينا من قبل بالثمن الجيّد الوافي {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} وتفضّل علينا بما بين الثمنين الجيّد والرديء. ولا تنقصنا من السعر، هذا قول أكثر المفسّرين، وقال ابن جريج والضحّاك: تصدّق علينا بردّ أخينا إلينا.
{إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} قال الضحّاك: لم يقولوا: إنّ الله يجزيك أن تصدّقت علينا لأنّهم لم يعلموا أنّه مؤمن، قال عبدالجبار بن العلاء: سُئِلَ سفيان بن عُيينة: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبيّنا صلى الله عليه وسلم قال سفيان: ألم تسمع قوله: {فَأَوْفِ لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} أراد سفيان أنّ الصدقة كانت لهم حلالا وأنّها إنّما حُرّمت على نبيّنا صلى الله عليه وسلم وروي أنّ الحسن البصري سمع رجلا يقول: اللهمّ تصدّق عليّ، فقال: يا هذا إنّ الله لا يتصدّق إنّما يتصدّق من يبغي الثواب، قل: اللهمّ أعطني أو تفضّل عليّ.
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} اختلفوا في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول، فقال ابن اسحاق: ذُكر لي أنّهم لمّا كلّموه بهذا الكلام غلبته نفسه وأدركته الرقّة فانفضّ دمعه باكياً ثمّ باح لهم بالذي كان يكتم فقال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}.
وقال الكلبي: إنّما قال ذلك حين حكى لإخوانه: أنّ مالك بن أذعر قال: إنّي وجدت غلاماً في بئر حاله كيت وكيت وابتعته من قوم بألف درهم فقال: أيّها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه، فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولّى يهوذا وهو يقول: كان يعقوب يحزن لفقد واحد منّا حتى كفّ بصره فكيف به إذاً لو قتل بنوه كّلهم، ثمّ قالوا: إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا وإنّه في مكان كذا وكذا، فذاك حين رحمهم وبكى وقال لهم ذلك القول.
وقال بعضهم: إنّما قال ذلك حين قرأ كتاب أبيه إليه وذلك أنّ يعقوب لما قيل له: إنّ ابنك سرق، كتب إليه: من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله، بن ابراهيم خليل الله أمّا بعد فإنّا أهلُ بيت مُوكَّل بنا البلاء، فأمّا جدّي فشدّت يداه ورجلاه وأُلقي في النار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأمّا أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكّين على قفاه، ليُقتل، ففداه الله، وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البريّة ثمّ أتوني بقميصه مُلطّخاً بالدم وقالوا: قد أكله الذئب وذهب [..........] ثمّ كان لي ابن وكان أخاه من أُمّة وكنت أتسّلى به، فذهبوا به ثمّ رجعوا وقالوا: إنّه سرق، وإنّك حبسته بذلك وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً، فإنْ ردَدته إليّ وإلاّ دعوت عليك دعوة تنزل السابع من ولدك، فلمّا قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره فقال لهم ذلك.
وقال بعضهم: إنّما قال ذلك حين سأل أخاه بنيامين: هل لك ولد؟ قال: نعم، ثلاثة بنين، قال: فما سمّيتهم؟ قال: سمّيتُ الأكبر يوسف قال: ولِمِ؟ قال: محبّة لك، لأذكرك به، قال: فما سمّيت الثاني؟ قال: ذئباً، قال: ولم سمّيته بالذئب وهو سبع عاقر؟ قال: لأذكرك به، قال: فما سمّيت الثالث؟ قال: دماء، قال: ولمَ؟ قال لأذكرك به، فلمّا سمع يوسف المقالة خنقته العبرة، ولم يتمالك، فقال لإخوته: لمّا دخلوا عليه: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ فرّقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إذ أنتم جاهلون، بما يؤول إليه أمر يوسف.
وقيل: يكون المذنب جاهل وقت ذنبه.
قال ابن عباس: إذا أنتم صبيّان، الحسن: شبان وهذا غيرُ بعيد من الصواب لأنّ مظنّة الجهل الشباب.
فإنّ سئل عن معنى قول يوسف {مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} وقيل ما كان عنهم إلى أخيه وهم لم يسعوا في حبسه، فالجواب أنّهم لمّا أطلقوا ألسنتهم على أخيهم بسبب الصاع حبس وقالوا: ما رأينا منكم يا بني راحيل كما ذكرناه، فعاتبهم يوسف على ذلك.
وقيل: إنّهما لمّا كانا من أُمّ واحدة وكانوا يؤذونه بعد فَقْد يوسف فعاتبهم على ذلك.
{قالوا أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ}: قرأ ابن مُحصن وابن كثير: إنّك على الخبر، وقرأ الآخرون على الاستفهام، ودليلهم قراءة أُبي بن كعب أو أنت يوسف، قال ابن أسحاق: لمّا قال يوسف لأخوته {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} الآية، كشف عنهم الغطاء ورفع الحجاب فعرفوه، فقالوا: إنّك لأنت يوسف، جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس، قال: قال يوسف: هل علمتم ما فعلتم بيوسف؟ ثمّ تبسّم، وكان إذا تبسّم كأنّ ثناياه اللؤلؤ المنظوم، فلمّا أبصروا ثناياه شبّهوه بيوسف، فقالوا له استفهاماً: إنّك لأنت يوسف؟، ابن سمعان عن عطاء عن ابن عباس قال: إنّ إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها، وكان لإسحاق مثلها، وكان لسارة مثلها شبه الشامة البيضاء، فلمّا قال لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ورفع التاج عنه، فعرفوه فقالوا: إنّك لأنت يوسف.
{قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ} بأن جمع بيننا بعدما فرّقتم {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ} بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، ويصبر عمّا حرّم الله عليه، قال ابن عباس: يتّق الزنا ويصبر على العزوبة، مجاهد: يتّق معصية الله ويصبر على السجن {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}، ف {قَالُواْ} مُقرّين مُعتذرين: {تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} اختارك الله علينا بالعلم والحكم والعقل والفضل والحسن والمُلك {وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} وإن كنّا في صنيعنا بك لمخطئين، مذنبين، يُقال: خطئ، يخطأ، خطأ وخِطأ وأخطأ إذا أذنب، قال أُمّية بن الأكسر:
وإنّ مهاجرين تكنَّفاهُ *** لعمرُ الله قد خطئا وخابا
وقيل لابن عباس: كيف قالوا: إنّا كنّا خاطئين وقد تعمّدوا لذلك؟ فقال: أخطأوا الحقّ وإن تعمّدوا، وكلّ من أتى ذنباً كذلك يُخطئ المنهاج الذي عليه من الحقّ حتى يقع في الشبهة والمعصية ف {قَالَ} يوسف وكان حليماً موفّقاً: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم} لا تعيير ولا تأنيب عليكم، ولا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم، وأصل التثريب: الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا زَنَت أَمَة أحدكم فليجلدها الحد ولا يُثرب عليها» أي لا يُعيّرها، ثمّ دعا لهم يوسف وقال: {يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين}.
عطاء عن ابن عباس قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت، وقال: «الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثمّ قال: «ما تظنون؟» قالوا: نظنّ خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، قال: «وأنا أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم».
قال السدي وغيره: فلمّا عرّفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل؟ قالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه وقال لهم: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} يعود مُبصراً، لأنّه كان دُعاء. قال الضحاك: كان ذلك القميص من نسج الجنّة، روى السدّي عن أبيه عن مجاهد عن هذه الآية قال: كان يوسف أعلم بالله عزّ وجل من أن يعلم أنّ قميصه يردّ على يعقوب بصره، ولكنّ ذلك قميص إبراهيم الذي ألبسه الله عزّ وجل في النار من حرير الجنّة، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب وكان يعقوب، أدرج القميص وجعله في قصبة وعلّقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، ثمّ أمره جبرئيل عليه السلام أن أرسل بقميصك فإنّ فيه ريح الجنّة لا يقع على مبتل ولا سقيم إلاّ صحّ وعوفي.
{وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}.


{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}
{وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} يعني خرجت من عريش مصر متوجّهة إلى كنعان. {قَالَ أَبُوهُمْ} لوِلد ولده {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} روي أنّ الريح استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب عليه السلام بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير، فأذن لها فأتته بها، ابن السدّي عن أبيه عن مجاهد، قال: أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيّام وذلك أنّه هبّت فصفقت القميص فاحتملت الريحُ ريحَ القميص إلى عقوب فوجد ريح الجنّة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنّة إلاّ أن تأتي من ذلك القميص فمن ثمّ قال: إنّي لأجدُ ريح يوسف، وهو منه على مسيرة ثماني ليال.
وروى شعيبة عن أبي سنان قال: سمعت عبدالله بن أبي الهُذيل قال: سمعت ابن عباس يقول: وجد يعقوب ريح يوسف روى أبو سنان عن أبي هذيل قال: سمعت ابن عباس يقول: وجد يعقوب ريح يوسف وهو منه على مسيرة ثماني ليال، وروى شعيبة عن أبي سنان قال: سمعت عبدالله بن أبي الهُذيل عن ابن عباس في هذه الآية قال: وجد ريحه من مسيرة ما بين البصرة والكوفة. وقال الحسن: ذكر لنا أنّه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخاً.
{لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}: سفيان عن حصيف، عن مجاهد {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}، قال: تُسفهون الرأي، عن ابن عباس: تجهلون، ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد: لولا أن تقولوا ذهب عقلك، سعيد بن جبير والسدّي والضحّاك: تُكذّبون، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والحسن وقتادة: تهرمون، ومثله روى إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد، ربيع: تحمقون، جويبر عن الضحّاك: تُهرمون، فتقولون: شيخ كبير قد خرف وذهب عقله، ابن يسار: تضعفون، أبو عمرو بن العلاء: تقبحون، الكسائي: تُعجزون، الأخفش: تلومون، أبو عبيدة: تُضللون، وأصل الفند: الفساد، قال النابغة:
إلاّ سُليمان إذْ قالَ المليك له *** قم في البرية فاحددها عن الفند
أي امنعها من الفساد، ولذلك يقال: اللوم تفنيد، قال الشاعر:
يا صاحبيَّ دعا لومي وتفنيدي *** فليس ما فات من أمر بمردود
وقال جرير بن عطية:
يا عاذليّ دعا الملامَ وأقصرا *** طال الهوى وأطلتُما التفنيدا
وقال آخر:
أهلكتني باللومِ والتفنيد ***
والفند: الخطأ في الكلام والرأي ويقال: أفند فلاناً الدهر إذا أفسده، ومنه قول ابن مُقبل:
دَعْ الدهر يفعل ما أراد فإنّه *** إذا كُلّف الافناد بالناس أفندا
{قَالُواْ} يعني أولاد أولاده {تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ} خطأك {القديم} من حبّك يوسف لا تنساه، {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير} المُبشّر برسالة يوسف، قال ابن عباس: البريد يهوذا بن يعقوب، ابن مسعود: جاء البشير من بين يدي العِير قال السدّي: قال يهوذا: أنا ذهبتُ بالقميص مُلطّخاً بالدم إلى يعقوب وأخبرته أنّ يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنّه حيّ وأفرحه كما أحزنته، قال ابن عباس: حمله يهوذا دونهم، وخرج حاسراً حافياً وجعل يعدو حتى أتى أباه، وكان معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها، وكانت المسافة ثمانين فرسخاً، وروى الضحّاك عن ابن عباس، قال: البشير مالك بن ذعر من أهل مدين.
{أَلْقَاهُ} يعني ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب، {فارتد بَصِيراً}: فعاد بصيراً بعد ما كان عمي.
عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبي عبدالله السلمي: قال سمعتُ يحيى بن مسلم عمّن ذكره قال: كان يعقوب أكرم أهل الأرض على ملك الموت، وإنّ ملك الموت استأذن ربّه في أن يأتي يعقوب فأذن له فجاءه فقال يعقوب: يا ملك الموت أسألك بالذي خلقك، هل أخذت نفس يوسف فيمن قبضت من النفوس؟ قال: لا، قال مَلك الموت: يا يعقوب ألا أُعَلِّمك دُعاءً؟ قال: بلى، قال: قُل: يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يُحصيه غيرك، قال: فدعا به يعقوب في تلك الليلة فلم يطلع الفجر حتى طرح القميص على وجهه فارتدّ بصيراً، قال الضحّاك: رجع إليه بصره بعد العمى والقوّة بعد الضعف والشباب بعد الهرم والسرور بعد الحزن.
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من حياة يوسف وأنّ الله يجمع بيننا {قَالُواْ} بعد ذلك {ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} مذنبين.
{قَالَ} يعقوب عليه السلام: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} في صلاة الليل، قال أكثر المفسّرين: أخّره من الليل إلى السحر، وذلك أنّ الدعاء بالأسحار لا يُحجب عن الله، فلمّا انتهى يعقوب إلى الموعد تقدّم إلى الصلاة بالسحر، فلمّا فرغ منها رفع يده إلى الله تعالى: اللهمّ اغفر لي حزني على يوسف وقلّة صبري عنه، واغفر لوِلدي ما أتوا على يوسف، فأوحى الله إليه: إنّي قد غفرتُ لك ولهم جمعين.
قال محارب بن دثار: كان عمّ لي يأتي المسجد، قال: فمررت بدار عبدالله بن مسعود فسمعته يقول: اللهمّ إنّك دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت فهذا سحرٌ فاغفر لي. فسألته عن ذلك فقال: إنّ يعقوب أخّر استغفار بنيه إلى السحر بقوله: سوف أستغفر لكم ربّي.
عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سوف أستغفر لكم ربّي، يقول: حتى يأتي يوم الجمعة».
قال وهب: كان يستغفر لهم كلّ ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة، وقال طاووس: أخّر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ذلك ليلة عاشوراء.
عن أبي سلمة عن عطاء الخراساني قال: طلب الحوائج إلى الشاب أسهل منها في الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، وقول يعقوب عليه السلام: سوف أستغفر لكم ربّي.
أبو الحسن الملاني الشعبي: قال: سوف أستغفر لكم ربي، قال: أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفر لكم ربي {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} روي أنّ يعقوب عليه السلام قال للبشير لمّا أخبره بحياة يوسف، قال: كيف تركت يوسف؟ قال: إنّه ملك مصر، فقال يعقوب: ما أصنع بالملك؟ على أيّ دين تركته؟ قال: على دين الإسلام.
فقال يعقوب: الآن تمّت النعمة.
وقال الثوري: لمّا التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كلّ واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف: يا أبة بكيتَ عليَّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ قال: بلى بُنيّ، ولكن خشيت أن تُسلب دينك، فيُحال بيني وبينك.
قالوا: قد كان يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب جهازاً ومائتي راحلة، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده أجمعين، متهيّأ يعقوب للخروج إلى مصر، فلمّا دنا من مصر كلّم يوسف الملك الذي فوقه فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند، وركب أهل مصر معهما، يتلقون يعقوب، ويعقوب يمشي ويقود ركابه يهوذا، فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال ليهوذا: هذا فرعون مصر؟ قال: لا، هذا إبنك.
فلمّا دنا كلّ واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك وكان يعقوب أحقّ بذلك منه وأفضل، فابتدأه يعقوب بالسلام وقال: السلام عليك أيّها الذاهب بالأحزان، فذلك قوله عزّ وجل: {فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ}.
فإن قيل: كيف قال لهم يوسف: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين بعدما دخلوها، وقد أخبر الله أنّهم لما دخلوا على يوسف وضمّ إليه أبويه قال لهم هذا القول حين تلقّاهم قبل دخولهم مصر كما ذكرنا.
وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير، وهذا الاستثناء من قول يعقوب حين قال: سوف أستغفر لكم ربي ومعنى الكلام: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} إن شاء الله {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم}.
فلمّا دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال: ادخلوا مصر آمنين {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} وهذا معنى قول أبي جرير، وقال بعضهم: إنّما وقع الاستثناء على الأمن لا على الدخول كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] و«قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول المقابر: وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون».
فالاستثناء وقع على اللحوق بهم لا على الموت، وقيل: {إنْ} هاهنا بمعنى إذْ كقوله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]، وقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33].
وقال ابن عباس: إنّما قال: آمنين لأنّهم فيما خلا كانوا يخافون ملوك مصر ولا يدخلون مصر لأنّهم لا جواز لهم، وأمّا قوله تعالى: {آوى} فقال ابن إسحاق: أباه وأمّه وقال الآخرون: أبوه وخالته لعيّا، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت في نفاسها وتزوّج يعقوب بعدها أُختها لعيا فسمى الخالة أُمّاً كما سمّى العمّ أباً في قوله: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] وروى اسحاق عن بشر عن سعيد عن الحسن، قال: نشر الله راحيل أمّ يوسف من قبرها حتى سجدت تحقيقاً للرؤيا.
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} على السرير، يعني أجلسهما عليه قال ابن اسحاق يعني رفع اسمهما {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} يعني يعقوب وخالته وإخوته، وكانت تحيّة الناس يومئذ السجود، ولم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض، لأنّ ذلك لا يجوز إلاّ للهِ تعالى وإنّما هو الانحناء والتواضع على طريق التحيّة والتعظيم والتسليم إلاّ على جهة العبادة والصلاة، وهذا قول الأعشى بن ثعلبة:
فلمّا أتانا بعيد الكرى *** سجدنا له ورفعنا العمارا
وقال آخر:
فضول أزمتها لأمّها أسجدت *** سجود النصارى لأربابها
وقيل: السجود في اللغة الخضوع كقول النابغة:
بجمع تضل البلق في حجراته *** ترى ألاكم فيه سُجّداً للحوافِر
أي متطامنة ذليلة.
قال ثعلبة: خرّوا يعني مرّوا، ولم يرد الوقوع والسقوط على الأرض، نظيره قوله تعالى: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان: 73] إنّما أراد لم يمرّوا كذلك، مجاهد: بمعنى المرور، وروي عن ابن عباس أنّ معناه خرّوا لله سُجّداً فقوله: له كناية عن الله تعالى {وَقَالَ} يوسف عند ذلك واقشعرّ جلده: {هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً}، وهو قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً}.
واختلفوا في مدّة غيبة يوسف عن يعقوب، فقال الكلبي: مائتان وعشرون سنة، سلمان الفارسي: أربعون سنة، عبدالله بن شدّاد: سبعون سنة وقيل: سبع وسبعون سنة، وقال الحسن: أُلقي يوسف في الجُب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقائه بيعقوب ثلاثاً وعشرين سنة، ومات وهو ابن عشرين ومائه سنة، وفي التوراة: مائة وستّ وعشر سنين. في قول ابن إسحاق بن يسار: ثمانين وسبعة أعوام، وقال ابن أبي إسحاق: ثماني عشرة سنة، وولد ليوسف من امرأة العزيز: افراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوّب، وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة.
{وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن} ولم يقل من الجبّ استعمالا للكرم لئلاّ يذكّر إخوته صنيعهم، وقيل: لأنّ نعمة الله عليه في النجاة من السجن أكبر من نعمته عليه في إنقاذه من الجب، وذلك أنّ وقوعه في البئر كان لحسد إخوته، ووقوعه في السجن مكافأة من الله لزلّة كانت منه.
{وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو} وذلك أنّ يعقوب وبنوه كانوا أهل بادية ومواشي، والبدو مصدر قولك: بدا، يبدو، بدوّاً، إذا صار بالبادية، {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ} أفسد {الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ} ذو لُطف وصنع {لِّمَا يَشَآءُ} عالم بدقائق الأمور وحقائقها، {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم}.
روى عبدالصمد عن أبيه عن وهب: قال: دخلوا يعني يعقوب وولده مصر وهم اثنان وسبعون إنساناً ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاطنهم ستّمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الذرّية والهرمى والزمنى، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتا ألف سوى المقاتلة.
قال أهل التاريخ: أقام يعقوب بمصر بعد موافاته بأهله أربعاً وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثمّ مات بمصر، ولمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك ومضى به حتى دفنه بالشام، ثمّ انصرف إلى مصر.
قال سعيد بن جبير: نُقل في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ووافق ذلك يوم مات عيصوا فدفنا في قبر واحد، فمن ثَمّ تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس من فعل ذلك منهم، وولد يعقوب وعُيص في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعاً مائة وسبعة وأربعين سنة.
قالوا: فلمّا جمع الله ليوسف شمله وأقرّ له عينه وأتمّ له رؤياه، وكان موسّعاً له في ملك الدنيا ونعيمها علم أنّ ذلك لا يدوم له وأن لابدّ له من فراقه فأراد نعيماً هو أدوم منه، فاشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنى الموت ودعا ربّه، ولم يتمنَّ نبي قبله ولا بعده الموت فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك} يعني ملك مصر {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} يعني تعبير الرؤيا {فَاطِرَ السماوات والأرض} أي خالقها وبارئها.
{أَنتَ وَلِيِّي} مُعيني {فِي الدنيا والآخرة} تتولّى أمري {تَوَفَّنِي} اقبضني إليك {مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} بآبائي النبيين.
قيل: فتوفّاه الله طيّباً طاهراً بمصر، ودفن في النيل في صندوق رُخام، وذلك أنّه لما مات تشاحّ الناس عليه كلٌّ يُحب أن يُدفن في محلّتهم لما يرجون من بركته، فاجتمعوا على ذلك حتى همّوا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث مفرق الماء بمصر فيمرّ الماء عليه ثمّ يصل الماء إلى جميع مصر، فيكونوا كلّهم فيه شرعاً واحداً ففعلوا.
وروى صالح المرّي، عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك، قال: إنّ الله عزّ وجل لمّا جمع ليعقوب شمله خلا ولده نجيّاً، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف؟ قالوا: بلى، قال: فإنْ أعَفَوا عنكم ولكن كيف لكم بربّكم؟، فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد.
قالوا: يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله، حتى حرّكوه، والأنبياء عليهم السلام أرحم البريّة، فقال: ما لكم يا بَنيَّ؟ قالوا: ألست قد علمت ما كان منّا إليك، وما كان منّا إلى أخينا يوسف؟ قالا: بلى، وقالوا: أفلستما قد عفوتما، قالا: بلى، قالوا: فإنّ عفوكما لا يغني عنّا إنْ كان الله لم يعفُ عنّا، قال: فما تُريدون يا بَني؟ قالوا: نُريد أن تدعو الله فإذا جاء الوحي من عند الله بأنّه قد عفا عنا صُنْعَنا قرّت أعيُننا واطمأنّت قلوبنا، وإلاّ فلا قرّة عين لنا في الدنيا أبداً، فقام الشيخ واستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلّة خاشعين، فدعا يعقوب وأمّن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة.
قال صالح المرّي: يخيفهم، حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبرئيل على يعقوب فقال: إنّ الله تبارك وتعالى بعثني إليك أُبشّرك، فإنّه قد أجاب دعوتك في وِلدك، وإنّه قد عفا عمّا صنعوا، فإنّه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة، وذلك الذي ذكرت وقصصتُ عليك.


{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ} والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} وما كنت يا محمّد عند أولاد يعقوب {إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ} أي تعاهدوا على إلقاء يوسف في غيابة الجُب، {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} بيوسف، {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم {بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله {مِنْ أَجْرٍ}: جعل وجزاء {إِنْ هُوَ} يعني القرآن والوحي {إِلاَّ ذِكْرٌ}: عِظة وتذكير {لِّلْعَالَمِينَ * وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ} وكم قول فيه عِظة وعبرة ودلالة {فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} لا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها.
الحرث بن قدّامة عن عكرمة أنّه قرأ: والأرضُ يمرون عليها رفعاً، عن محمّد بن عمر قال: سمعت عمرو بن وائل يقرأ: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات} قطعاً، {والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} رفعاً، أبو حمزة الثمالي عن السدي: أنّه قرأ والأرضَ يمرون عليها نصباً، وقرأ: يمرون على الأرض، وعن ابن مجاهد قال: حدّثنا إسحاق الحربي أبو حذيفة، حدّثنا سفيان قال: وقرأ عبدالله: {وكأيّن من آية في السماوات والأض يمشون عليها}.
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} عكرمة في قول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قال: من إيمانهم إذا سُئِلوا: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، وإذا سُئِلوا مَن نزّل القطر؟ قالوا: الله، ثمّ هُم يُشركون، وروى جابر عن عكرمة وعامر، في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قالا: يؤمنون بالله أنّه ربّهم وهو خالقهم ويشركون مَن دونه، وهذا قول أكثر المفسّرين.
وروى بن جبير عن الضحّاك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيّك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك، تملكه وما ملك، وكان فيها يخزونك من تلبي: فأجب يا الله لولا أن بكراً دونك بني غطفان وهم يلونك، ينزل الناس ويخزونك، ما زال منا غنجاً يأتونك، وكانت تلبية حرمهم: خرجنا عبادك الناس طرف وهم تلادك، وهم قديماً عمّروا بلادك، وقد تعادوا فيك من يعادك، وكانت تلبية قريش: اللهمّ لبيّك، لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك، وكانت تلبية حمدان وغسان وقضاعة وجذام وتلقين وبهرا: نحن عبادك اليماني إنّا نحجّ ثاني على الطريق الناجي نحن نعادي جئنا إليك حادي. فأنزل الله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} يعني في التلبية.
وقال: لمّا سمع المشركون ما قبل هذه الآية من الآيات قالوا: فإنّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء ولكنّا نزعم أنّ له شريكاً، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
عطاء: هذا في الدعاء وذلك أنّ الكفّار أشركوا بربّهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء، بيانه قوله تعالى: {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [يونس: 22] وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [لقمان: 32] وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ} [يونس: 12] وقوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51].
وقال بعض أهل المعاني: معناه وما يؤمن أكثرهم باللهِ إلاّ وهم مشركون قبل إيمانهم، نظيره قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً} [ق: 36] يعني كانوا هم أشدّ منهم بطشاً. وقال وهب: هذه في وقعة الدُخَان وذلك أنّ أهل مكّة لمّا غشيهم الدخان في سنيّ القحط قالوا: ربّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمنون، وذلك إيمانهم وشكرهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب بيانه قوله: {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} والعود لا يكون، إلاّ بعد ابتداء والله أعلم {أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله} قال ابن عباس: مُجللة، مجاهد: عذاب يغشاهم، نظيره قوله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]: قتادة: وقيعة، الضحّاك: يعني الصواعق والقوارع {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة} القيامة {بَغْتَةً} فجأة، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بقيامها، ابن عباس: تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم.
{قُلْ} لهُم يا محمّد {هذه} الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها {سبيلي} سُنّتي ومنهاجي، قاله ابن زيد، وقال الربيع: دعوتي، الضحّاك: دعائي، مقاتل: ديني، نظيره قوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] أي دينه، {أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ} على يقين، يقال: فلان مستبصر في كذا أي مستيقن {أَنَاْ وَمَنِ اتبعني} آمن بي وصدّقني فهو أيضاً يدعو إلى الله، هذا قول الكلبي، وابن زيد قال: أحقّ والله على من اتّبعه أن يدعو إليّ بما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله.
وقيل: معناه أنا ومن اتّبعني على بصيرة، يقول: كما أنّي على بصيرة، فكذلك من آمن بي واتّبعني فهو على بصيرة أيضاً، قال ابن عباس: يعني أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرحمن. {وَسُبْحَانَ الله} أي وقل: سبحان الله تنزيهاً له عمّا أشركوا {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ}: يا محمّد {إِلاَّ رِجَالاً} لا ملائكة، {نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} يعني من أهل الأمصار دون أهل البوادي لأنّ أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} يعني هؤلاء المشركين المنكرين لنبوّتك {فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أخبر بأمر الأُمم المكذّبة من قبلهم، فيعتبروا {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا} يقول جلّ ثناؤه: هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن نُنْجيهم عند نزول العذاب، وما في دار الآخرة لهم خيرٌ، فترك ما ذكرنا، آنفاً لدلالة الكلام عليه، وأُضيف الدار إلى الآخرة ولا خلاف لتعظيمها كقوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] وقولهم: عامٌ الأوّل، وبارحة الأولى ويوم الخميس وربيع الآخر: وقال الشاعر:
ولو أقوتُ عليك ديارعبس *** عرفت الذلّ عرفان اليقين
يعني عرفاناً.
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} يؤمنون {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} اختلف القُرّاء في قوله: {كُذِبُواْ} فقرأها قوم بالتخفيف وهي قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن مسعود وأُبي بن كعب وأبي عبدالرحمن السلمي وعكرمة الضحاك وعلقمة ومسروق والنخعي وأبي جعفر المدني ومحمّد بن كعب والأعمش وعيسى بن عمر الهمداني وأبي اسحاق السبيعي وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة وعلي بن الحسين وابنه محمّد بن علي وابنه جعفر بن محمّد، وعبدالله بن مسلم وابن يسار، واختارها الكسائي وأبي عبيدة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قرأ {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} مخفّفة وهي قراءة عائشة وهرقل الأعرج ونافع والزهري وعطاء بن أبي رياح وعبدالله بن كثير وعبدالله بن الحارث وأبي رجاء والحسن.
وقتادة وأبي عمرو وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون ويعقوب، ورويتْ أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قرأ بالتخفيف، فمعناه: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبتهم في وجود العذاب.
وروى الخبر عن شعيب بن الحجاج عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري: قال صنعت طعاماً فدعوتُ ناساً من أصحابنا منهم: سعيد بن جبير وأرسلتُ إلى الضحّاك بن مزاحم فأبى أن يجيئني فأتيته فلم أدعه حتى جاء، قال: فسأل فتىً من قريش سعيد بن جبير فقال: يا أبا عبدالله كيف تقرأ هذا الحرف فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت إنّي لا أقرأ هذه السورة: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قال: نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم، وظنّ المُرسل إليهم أنّ الرُسل كذّبوهم.
قال: فقال الضحّاك: ما رأيتُ كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكّأ، لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا.
وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنَّت الرُسُل أنّهم قد كُذِبوا فيما وجدوا من النُصرة. وهذه رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانوا دعوا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنّهم أخلفوا ثمّ قوله تعالى: {حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} [البقرة: 214] الآية، ومن قرأ بالتشديد فمعناها، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم وظنّت الرُسُل أي استيقنت أنّ أممهم قد كذبوهم جاءهم نصرُنا، وعلى هذا التأويل يكون الظنّ بمعنى العلم واليقين كقول الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي متلبب *** سراتهم في الفارسيّ المسُردِ
أي أيقّنوا.
وهذا معنى قول قتادة، وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرُسُل ممّن كذّبهم من قومهم أن يصدّقونهم، وظنّت الرسل أنّ من قد آمن بهم وصدّقوهم قد كذّبوهم فارتدوا عن دينهم لاستبطائهم النصر {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} وهذا معنى قول عائشة.
وقرأ مجاهد {كُذِبُوا} بفتح الكاف والذال مخفّفة ولها تأويلان: أحدهما: حتى إذا استيأس الرسل أن يُعذَب قومهم، وظنّ قومهم أنّ الرُسُل قد كذبوا جاء الرُسل نصرنا، والثاني: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّت الرسل أنّ قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم، ويكون معنى الظنّ اليقين على هذا التأويل، والله أعلم.
{فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ} عند نزول العذاب وهم المطيعون والمؤمنون {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} عذابنا {عَنِ القوم المجرمين} يعني المشركين، واختلف القرّاء في قوله فنُجّي فقرأها عامّة القراء فننجّي بنونين على معنى فنحن نفعل بهم ذلك، فأدغم الكسائي أحد النونين في الأُخرى فقرأ: فنجّي بنون واحدة وتشديد الجيم، وقرأ عاصم بضمّ النون وتشديد الجيم وفتح الياء على مذهب ما لم يُسمَّ فاعله، واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنّها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة وقرأ ابن مُحيصن فنجا من نشاء بفتح النون والتخفيف على أنّه فعل ماض ويكون محلّه على قراءة عاصم وابن محيصن رفعاً، وعلى قراءة الباقين نصباً.
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} أي في خبر يوسف وأخوته {عِبْرَةٌ} عِظة {لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ} يعني القرآن {حَدِيثاً يفترى} يُختلق {ولكن تَصْدِيقَ} يعني ولكن كان تصديق {الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ما قبله من الكتب {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} ممّا يحتاج إليه العباد {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

1 | 2 | 3 | 4